- الواقع السحري بذاته، وليست الواقعية السحرية
- الرواية لا تشي بل تعلن بوضوح عن كاتب كبير قادم
- الحياة في المساحة بين الواقع والمجاز
- لا السيرة هشة ولا اليوم عادي
- حين تمتلئ الرواية بالحياة حتى تفيض
أعرف الدكتور عبد الكريم الحجرواي منذ فترة وجيزة، وقد أعاد لي حين سمعته وقرأت له ناقدًا الثقة في مستقبل النقد الأدبي والفنيّ ببلادنا، أدهشني فعلًا أن شابًا صغير السن يمتلك الوعي والقدرة والأدوات التي تجعله يلتحم مع النصوص والإبداعات ويخترق حصونها عبر رؤية ناصعة وقدرة على التحليل والتشريح، تدعمها خلفية ثقافية محيطة، ومخزون تحصيلي لا يكون إلا لموهوب اجتهد على رعاية موهبته وتغذيتها وتنميتها وفتح أفقها بالقراءة والإلمام والتأمل، ليخلق لنفسه الجناحين اللازمين للتحليق في عوالم الأعمال الفنية والأدبية وفضاءاتها، وأعني بهما جناح الموهبة وجناح التحصيل والصقل والدراسة، وليفلت من آفتين عظيمتين هما آفتا النقد والنقاد في حياتنا الثقافية، أولاهما آفة امتلاك الموهبة مع إهمال الإلمام والتحصيل والدراسة والصقل، والتي ينتج عنها ما يمكن تسميته بالناقد الفهلوي، الذي يقول كلامًا يشبه النقد ويكتبه، ويكاد يكرره عند تناول أي عمل، ويرتكب في سبيل ذلك مغالطات تبلغ حد التدليس، دون أن يرف له جفن ضمير، وثانية الآفات وأخراهما فيما يخص النقد والنقاد، هي آفة مصادفة الدراسة التي جعلته يظن أنه يصلح ناقدًا بحكم الظروف فصار، بلا موهبة ولا قدرة طبيعية على القيام بهذه المهمة، وهذه تخص في الغالب دارسي النقد والأدب من حملة شهادات الماجستير أو الدكتوراه، أولئك الذين يظن الواحد منهم أن حفظ بعض النظريات والمقولات وقراءة بعض الكتب الإبداعية والنقدية، مؤهلات كافية لأن يصير ناقدًا بل ومحكّمًا لا يُرد له كلام، وقد رأينا أمثال أولئك كثيرين، خصوصًا في لجان تحكيم المسابقات في الشعر والقصة وخلافه، ممن تشعر حيال قدراتهم البائسة بالإشفاق، وهؤلاء يذهب الواحد منهم للنص أو العمل محملًا بمحفوظاته وأدوات قياسه، فيعتسف العمل ويلوي عنقه ويهشمه ليصير على مقاس ما يحفظ، خاضعًا لسلطة محفوظاته وحصيلة تلقينه.
حين سمعت الحجراوي وقرأت له، أدركت أنه من زمرة الناجين من هاتين الآفتين، فهو موهوب، درس واجتهد وحصّل وتتلمذ على يدي الأجلاء من أساطين المجال، حتى حصل على الدكتوراه، والحق أن مقالًا واحدًا تقرأه له أو ندوة واحدة تسمعه يتحدث فيها، لا أقول ستشي بل أقول ستعلن لك عن قدوم ناقد حقيقي كبير يستحق أن ينتظر، ويتجدد به الأمل بأن حياتنا لن تنضب وأن بلادنا ولّادة تستعصي على العقم.
"لا السيرة هشة ولا اليوم اليوم عادي"
كنت على عهدي بالدكتور عبد الكريم الحجراوي، أرى فيه الناقد كما أتمنى، إلى أن قرأت له روايته الكبيرة كمًا وكيفًا "سيرة هشة ليوم عاديّ"، ولأني من المؤمنين بأن الموهوب المبدع في الكتابة يمكنه أن يستخدم موهبته في كتابة أي شيء يريد، من صنوف الكتابة وأنواعها متى امتلك أدواته، كنت على ثقة من أني سأجد في الرواية ما يستحق القراءة وعناءها، خصوصًا وأن الرواية كبيرة الحجم، تزدحم بالأسماء والشخصيات، لكني رغم هذه التوقع المتفائل وهذه الثقة المبنية على براهين، وجدت الرواية أكبر من توقُّعي، وجدت الروائي عبد الكريم الحجراوي، لا يقل عن الناقد، فروايته تشبه نقده في أنها لا أقول همسًا يشي، بل صوتًا يصرخ ويعلن بوضوح وجلاء ونصاعة، أننا إزاء بزوغ كاتب روائي كبير قادم.
رواية "سيرة هشة ليوم عادي" هي عمل يتخذ من يوم واحد، فضاءً زمنيًّا لأحداثه، يوم واحد فقط، يقسمه لأوقات اليوم المعروفة من السحر للبكور للشروق للضحى .. إلخ، وحين أدركت ذلك أدهشني الأمر خصوصًا مع حجم الرواية الكبير فتذكرت الآية الكريمة "47" من سورة الحج، التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها "... وإنَّ يومًا عند ربِّكَ كألف سنةٍ مما تَعُدُّون"، واتساقًا مع هذا المعنى الذي خطر لي مع تذكر الآية الكريمة، وجدت الرواية تحيل قرية الأحداث إلى عالم قائم بذاته، يحيا في الرواية ويموت ويبعث في يومه الطويل الذي تسرد أحداث الرواية سيرته وتؤرخ له.
مكان الرواية وزمنها، ليسا نقطتين في فراغ
فالمكان في الرواية هو قرية صغيرة في جنوب مصر، لها حدود واضحة قاطعة، اهتمت الرواية بأن تبينها وترسم لها صورة، فهي انبساط على الشاطئ الشرقي للنيل، تحيط بها جبال الصحراء الشرقية وتحتضنه وتحدق به على هيئة حدوة حصان، ورغم أن الجبال والتضاريس الطبيعية تكاد تعزل القرية وتصنع منها عالمًا قائمًا بذاته، إلا أن الروائي في وعي وبراعة وحنكة لا يجيزها أن هذا العمل هو عمله الروائي الأول، جعل بوابة حدوة الحصان أو الضلع الرابع من حدود القرية، مفتوحًا على خط السكة الحديد، وطريق اسكندرية أسوان، ومجرى النيل الذي تمخر السفن موجه الواهن، ليصنع في ذكاء وبراعة، كل هذه العلائق بين هذا العالم المنغلق المكتفي بذاته، وبين بقية مصر وبقية العالم، فعالم القرية إذن ليس نقطة في فراغ، بل هي وحدة بناء في مبنى الوطن الكبير والعالم الأوسع، وهو عضو تربطه ببقية الجسد الروابط، التي تجعل القرية بعالمها تؤثر في العالم وتتأثر به.
كذلك صنع بذكاء ووعي وحنكة ذات الصنيع مع تاريخ القرية الذي اختصره في يوم واحد طويل متمدد، ينحصر في القرية ويغوص في تاريخها ويخصها وحدها، تتمدد فيه حياتها بكل طقوسها التي حشدها بصبر وجلد وإحاطة، وتظل تنتقل من وقت من أوقات الليل والنهار، إلى الوقت الذي يليه، من السحر إلى الفجر ومن الفجر للصبح ومن الصبح للضحى للظهيرة وهكذا..، كأنها تقضي فيه حياتها وموتها وتقوم قيامتها، لكن هذه التاريخ رغم عزلته وانغلاقه الظاهري، إلا أنه في الحقيقة والعمق، يتعلق بتاريخ الوطن والعالم الكبير بعلائق لا يمكن قطعها، علائق تتيح التأثير والتأثر والالتحام والتفاعل المتبادل، مثل تاريخ بناء السد العالي وتواريخ دخول الغزاة المختلفين وكيف أن تاريخ القرية تأثر، كما تتأثر أمواج الشواطئ بحجر يلقى في منتصف النهر، أو كما يحب النقاد أن يطلقوا عليه أثر رفيف الفراشة، ففي التقاطين ذكيّين ومفارقتين لا يمكن التغاضي عنهما، لأنهما متعلقتان بتاريخ بلادنا الحديث وبأبرز حدثين فيه هما نكسة 1967م، وانتصار أكتوبر عام 1973م، نجد الروائي يسوق بطله الفاعل أو المثقف العضوي بالقرية وهو الشيخ "عكاشة" الذي يحفّظ الأولاد كتاب الله بكتّاب القرية، نجده يجمع الناس ليساهموا في بناء مدرسة القرية الأولى، والتي تبّرع لها بجزء من بيته، ويكون نجاحه وانتصاره في تحقيق هذا الهدف الحلم، متزامنًا مع الهزيمة العسكرية في 67 م، وكأن الهزيمة طارئة قشرية لم تصل لعمق الإنسان، أمّا فيما يتعلق بانتصار أكتوبر، فالحاج إدريس الذي حارب وصعد خط بارليف عند نقطة زاوية قائمة بحمولته من المهمات الثقيلة والسلاح، فنجد الروائي يصوره بعد انتصاره مريضًا يعاني لا يستطيع أن يحمل جسده ولا يجد من يعينه ليذهب إلى الحمام، في إشارة للتخلي عن أصحاب النصر وتركهم لمصائر انهزام إنساني جليّ الحضور.
اللغة بوصفها هدفًا لا وسيلة
أول ما ادهشني في رواية "سيرة هشة ليوم عادي" للكاتب الدكتور عبد الكريم الحجرواي، هو اللغة، فهي ليست وسيلة ليقول بها ما يريد فحسب، ولكنها غاية يبدع ليصل إليها ويجتهد فيها ويحافظ على رفعها إلى مستوى النص الأدبي دون أن يتخلى عن هذا المستوى حتى في المواقف التي يمكن وصفها بالعادية أو السوقية أو مواقف التعامل اليومي المبتذلة.
لغة شاعرة تتضامن مع حالة الشاعرية التي يتخذ من موضوع التوقيت المتغير، محركًا ومفجرًا لها، فتوقيتات اليوم التي تتوالى طيلة الليلة والنهار، هي في جانب رئيس من جوانبها، ناتج العلاقة بين الظل والضوء، أو النور والظلمة، وهذا الناتج هو عماد التشكيل في الصور أو اللوحات التي يرسمها في كل فصل، ويضع لها عنوانًا، ففصل الظهيرة أو لوحتها هي انتصارٌ للضوء في مقابل انهزام الظلال، وسيادته في مقابل انسحابها، وفصل الفجر هو مساحة التماس وحقل الاختلاط بين الموضوعين والمساحتين، حيث يمتزج الضوء بالظل، وهو حريص أن يعبر ذات التعبيرات، ويعكس الحالة أو يصورها بلغة شاعرة تنعكس عليها أجواء كل حالة وتأثيراتها النفسية، لا على الأماكن فقط بل على الشخوص والمواقف والطقوس والممارسات.
تكاد لغة الرواية أن تكون لغة شاعر يطوعها لتكتب السرد وتصف الشخوص وتروي الحكايات، يذيب حالة التكثيف الشعري ويفككها وينزل بها من سماء الشعر إلى أرض الرواية، مع احتفاظها بالقدرات والسمات العلوية للغة الشاعرة المشحونة بالانفعال، وأرجو ألّا تشعر بالمبالغة إذا قلت لك إن لغة الحجراوي في هذه الرواية، يصعب أن تجد مثيلًا لها في هذه الناحية بين كل الساردين العرب، وخصوصًا أصحاب الأعمال الواقعية، إذا استثنيت لغة العبقري المدهش يحيى الطاهر عبد الله، التي تضرب في اتجاه لا يشاركه في ارتياده مخلوق.
ولأن الرواية تحتشد بكل الطقوس الجنوبية وتكاد تحصرها مما يجعل الحياة في الرواية تمضي في شقين متوازيين، يمكن أن نمسي الأول هو شق الحياة الواقعية، والآخر هو شق الحياة المجازية، وأعني بالشق الواقعي حياة العمل في البيوت والغيطان وارتفاق أسباب الحياة من حيوان وآلة، والتعامل اليومي المبني على خذ وهات وتبادل المنافع، والأنشطة الإنسانية العادية كالنوم والاستيقاظ ..إلخ، بينما شق الحياة المجازية أو الروحية أو الفنية، والذي لا يقل حضورًا عن نظيره الأول فهو المتعلق، بحضرات الذكر، والطقوس الصوفية، سيما وأن بالقرية خمسة مقامات لأولياء، أربعة في زواياها الأربع، والخامس في القلب أو المنتصف، مما جعل التصوف هو مذهب الناس ودينها، وكذلك الأعمال الروحية المتوارثة منذ قدماء المصريين كأعمال السحر والربط والحل والعلاج بالممارسات المتوارثة التي لا يُفهم كيف يأتي أثرها كطقس "البسلة" والسبع أحجار وغيره، كذلك الاعتقاد في المجاذيب والممسوسين، إضافة لسهرات الكف والنميم وفن العديد، كل هذا جعل الحياة ذاتها نصًّا فنيًّا هو للمجاز أقرب إلى الواقع، وقد نجحت اللغة في أن تعبر عن هذه الحياة المجاز بمجاز يصلح لها ويستوعبها.
واقعية قرية الجنوب .. سحرية بذاتها
قد يُخدع قارئ رواية "سيرة هشة ليوم عادي" ويظن أن الروائي يستخدم الواقعية السحرية، التي يحلو للنقاد نسبتها للروائي الكولومبي العظيم ماركيز، أو ضربه كنموذج أشهر وربما وحيد لها، بينما الحقيقة التي نغفل عنها أن تراثنا الروائي في نماذجه البدائية هو مصدرها، وإن لم يكن ماركيز وغيره من كتابها قد اطلع عليه ونقل عنه، فهو أسبق بقرون تنفي أي شبهة تحول ختم هذا الاتجاه ودمغه بخاتمنا وتوقيعنا وبصمتنا، وإلّا كيف يمكن تقبل أن طائر الرخ في قصص ألف ليلة وليلة مثلًا، يحمل إنسانًا بمخالبه ويحلق به، أو أن الحوت يصير جزيرة تنبت على ظهره الأعشاب والحشائش والشجر، ويعيش عليه السندباد، دون أن ينتبه أنه على ظهر حوت إلا حين أشعل النار التي بلغ ألمها الحوت فتحرك، هل يمكن قبول مثل هذه الرواية إلا من منظور الواقعية السحرية؟، وأي إغراق بل وإسراف في توظيف هذا الاتجاه والاعتماد عليه يمكن أن يضاهي كليلة ودمنة؟ لذا فوصول الواقعية السحرية لغةً وأحداثُا لمبدع عظيم مثل يحيى الطاهر أو مستجاب هو امتدادٌ طبيعي ووراثة شرعية، ولعلي قرأت أن بعض أعمال يحيى قد بلغت ماركيز قبل أن تصدر أعماله ذات السمت السحريّ وأنه أعجب به ووصفه بالمدهش العظيم.
ما أريد قوله هنا أن يحيى الطاهر عبد الله ومستجاب الصعيديين، كان يكتبان واقع حياتيهما الذي هو سحري بطبعه، وعن هذا الواقع أيضًا كتب الدكتور عبد الكريم الحجراوي روايته، فكان حتمًا حتى وإن كانت نيته أن يكتب واقعًا صرفً، أن يأتي واقعه سحريًا، فالواقع الذي تمتزج فيه الأساطير والطقوس الروحية بواقع الناس وأساليب حياتهم، وتكاد تكون الدافع الأول والأهم لكل سلوكهم وممارساتهم هو واقع سحريّ بذاته، ومن ثم فإن تصويره بصدق ووعي به سيأتي مفعمًا بسحره وأسطورته وامتدًا لها، فالمرأة التي تحمل ما لا تستطيع حمله الجمال عند الحجراوي، والغيوم والتلال التي يجعلها تشارك في تشييع الميت وطقوس دفنه، في روايته "سيرة هشة ليوم عاديّ" والشاب المجذوب الذي يتفوق في سرعته على السيارات، ثم قدراته السحرية الخارقة، التي تجعله يعدو ثم ينقل الإجهاد والتعب الناتج عن عدوه وجريه السريع الطويل إلى شخص آخر سواه، يشعر فعلًا بالتعب والإرهاق والعرق الغزير حتى يغفو في جلسته المرتقبة بين القبور، وينام بعمق أثرًا للإرهاق والتعب .. كل هذا هو واقع الحياة وقناعات الناس في تلك القرية العالم، ويومها الذي هو الزمن الذي لا يتوقف.
-------------------------------
بقلم: سعد القليعي







